حُبٌ يتجدد بعد أربعين سنة!
في قريةٍ من القرى الجميلة ، والتي اكتست جِبالهُا بالخضار ، وسالتْ أوديتُها بالأمطار، وصَدحتْ فوق غصون أشجارها الأطيار، وتفتحتْ في جنّانها الأزهار ، وُجدَ رَجُلٌ هَرِمٌ يبكي بكاءً حاراً ،كادتْ رُوحُهُ تخرجُ مع هذا البكاءْ ، وصاحبَ بُكاءه إكثاره من الحوقلة(لا حول ولا قوة إلا بالله) ، وكان اسم هذا الرجل عبدالله.
وبينما هو على هذه الحالة من البكاء مرَ عليه رجلٌ لهُ هيبةٌ ووقارٌ ولمّا شاهده يبكي دُهش لحاله وأستفهمَ قائلاً : ما الذي جعل هذا الكهل يبكي كل هذا هذا البكاء؟ فواصل الرجلُ سيره مُيمّماً وجهه إلى حيث يجلس ذلك الكهل ، ولمّا شاهد الكهلُ الرجلَ يقتربُ منه حاول إخفاء بكائه ، وكتم عبراته ، وقام بمسح دموعه التي بللت لحيته البيضاء ، وحاول ربط جأشه ، وبعد وصول الرجلُ إليه ألقى إليه التحية الطيبة المباركة قائلاً :السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فردَ عليه الكهل تحيته بتحيةٍ أحسن منها، فسأله الرجلُ عن سبب بكائه قائلاً له: لماذا تبكي يا عمّ ؟ فقال له الكهل: لقد تذكرتُ حادثةً مؤلمةً مرت عليّ منذ أربعين سنة !!! ما مرَ عليّ حادثةٌ مثلها في حياتي يا بُنيّ ثُمّ أجهشَ بالبكاء مرةً أُخرى ، فقال الرجلُ وما هذه الحادثة التي جعلتك تبكي كلَ هذا البكاء يا عَمُّ؟ فقال له: لقد كان في القرية التي أقطنها أنا وأهلي أسرةً كريمةً ولديهم فتاة عمرها 17سنة آيةٌ في الجمال ومثالٌ في الأخلاق والأدب اسمها هِند وكنتُ أُحبُها حباً طاهراً ، وكانت تبادلني الشعور نفسه، وكان عُمري ما يقارب العشرون عاما ، وقامتْ والدتي بخطبة هذه الفتاة لي وذلك لمّا رأت أنني أرغب في الإقترانِ بها ، وقد وافق أهل الفتاة على طلبي وبدأتُ أرتب أموري وقررت السفر إلى مدينةٍ بعيدةٍ لمدة عامين لكي أعمل و أجمع ما يسد حاجتي في الزواج ، وقمتُ بتوديع والدتي وطلبتُ منها الدعاء لي في السجود وفي ظهر الغيب ، وقمت بالذهاب إلى منزل خطيبتي هند ، وقمتُ بتوديعها ووالدها وجميع اخوانها،وسافرتُ وغادرت بلدي مُيمّماً وجهي شطر ذلك البلد .
ووصلتُ إلى ذلك البلدِ وتحصلتُ على عملٍ مناسبٍ لي وأعطاني صاحب العمل أجراً مناسباً ، وكانَ صاحب العملِ رجلاً خلوقاً يخافُ الله ويراقبُهُ ويحثنا على صلاة الجماعة، ووجدتُ في ذلك البلدِ أحد أبناء بلدي واسمه عِصام وأخبرتُهُ بأنني قد خطبتُ وسألني قائلاً :من هي الأسرة التي قد خطبتَ منها يا عبدالله ؟ فأخبرتُهُ عن اسم الأسرة التي خطبتُ منهم وبعد اخباري له تغيّر وجههُ وأصابه هَمٌّ لا أعرف سببُه !!، واتضحَ لي أنّه يعرفهم تمام المعرفة ،وأظهر لي أنّ هذه الأسرة لا تُناسبني وحاول إقناعي بتركهم لكنّه لم يُظهر لي سبباً مقنعاً مّما جعلني لا أكترث لِما قاله ، واستغربتُ منه اصراره على إقناعي .
وبعد عدة أيامِ عاد صاحبي إلى بلدنا وتقدم لخطبةٍ الفتاة التي تقدمتُ لخِطبتها فرفض أهلُها أول الأمر ولكنّه أغرى والدها بالمال مّما جعلَه يقتنعُ بالأمر ورفضتِ الفتاةُ تحقيقَ رغبةِ والدها في ذلك وقالت له : يا والدي إنّ فعل ذلك الرجل أمرٌ مُحرمٌ إذ أنّه قد خَطبَ على خِطبةِ أخيه عبدالله وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّمَ ــ عن ذلك، وقد أعطينا الرجل الأول الموافقة ولا يجوزُ لنا أن نتراجعَ عن موافقتنا السابقة بدون عُذرٍ شرعيٍ مقنعٍ ، فقال لها والدها: لن تتزوجي إلا من هذا الرجل وإذا عارضتي سوف أضربك ضرباً شديداً وحاولتْ والدتها التدخلَ لكنّ زوجها هددها بالطلاقِ وبعد ذلك أعطى الموافقة الصريحة للرجل وعقد له قرانه رغمْ رفضِ الفتاة لهذا الرجل وتزوجتَ به زواج إكراهٍ لا زواج رغبةٍ .
وحصل كلُ هذا وأنا لا أعلمُ عن ما حدث شيئاً ، وكنتُ أحسبُ الأيام وأعدُ الليالي وكلما مضى يومٌ ازددتُ فرحاً لذهابه وذلك حرصاً مني في انقضاء المدة التي اتفقتُ أنا وصاحب العمل عليها ، ومضتِ الأيام و انقضتِ المدة وحانَ وقتُ عودتي إلى قريتي الصغيرة ومسقط رأسي وكنتُ في قِمّة السعادةِ ، وقمتُ بالرحيل إلى بلدي والأشواق تسبقني والآمالُ تدفعني ، وكتبتُ قصيدةً من قصائد الشوق لخطيبتي هند ، وقررتُ أن أعطيها القصيدة بعد عقد القران ، ووصلتُ إلى بلدي وطرقتُ البابَ على والدتي وفتحتِ البابَ لي وقبلتُ رأسها ويدها ولكنّها أجهشتْ بالبكاءِ وطأطأت رأسها فظننتُ أنّ بكاءها كان من شِدةِ شوقها لي وفرحاً بقدومي وما تمالكتُ نفسي وشاركتُها البكاءَ ..... ، وبعد برهةٍ من الزمنِ ِ رفعتْ بصرها إليّ ولمْ تتكلمْ بكلمةٍ واحدةٍ وإنّما اكتفتْ بإطلاق بعض النظرات الغريبة التي جعلتني في حيرةٍ من أمري وأخذتُ أسألُ نفسي قبل سؤالي لوالدتي : ما لأمرُ ؟ وماذا حدث؟ وبعد سكوتي بعض الوقت قمتُ بسؤال والدتي :ما لأمر؟ فقالتْ يا بُني لقدْ حدثَ أمرٌ قبل مجيئك باسبوع، قلتُ لها وما لذي حصل يا والدتي؟ قالتْ لقد تزوّجتْ خطيبتك هِند من صاحبك عصام الذي كان يعمل معك في ذلك البلد ، وهي مُكرهةٌ على الزواج منه، فلم أتمالك نفسي وسقطتُ مغشياً عليّ إذ كان الخبرُ مثل الصاعقةِ علىّ ، ومرضتُ عِدة أيامٍ ، ومكثتُ مدة من الزمنِ تقتلني الأحزان وتعصفُ بي الهموم .
وتأثرت والدتي لحالي وأصابها المرض ، ولمّا خِفتُ عليها أظهرتُ تجلداً وتصبراً ما جعل والدتي تطمئنّ عليّ وتحسنت حالتها ولله الحمد .
وبعد مدة من الزمن عرضتْ علي والدتي الزواج ، فرفضتُ ذلك الأمر وقلتُ لها لا أفكرُ في الزواج اطلاقا ، وسافرتُ إلى بلادٍ بعيدة.
حاولتُ أن أسلو وأن أنسى الموضوع ولكنّ الأمر كانَ شاقاً عليّ ، والتجأتُ إلى الله وسألتُه العون فأعانني ولم أتزوجْ إلى هذا اليوم ، ونسيتُ الحادثة أربعين سنةً وبعدها عدت إلى بلدي ، وبينما كنتُ أمشي في طريقي وصادفتني امرأة وبادرتني بالسؤال قائلة : هل أنت عبدالله ؟ قلتُ نعم ، فقالت أما عرفتني؟ قلت : لا ، فقالت لي أنا هند التي خطبتها قبل أربعين سنة فقلت لها أأنت هند؟ قالت نعم هند ؟؟ فكان موقفاً عصيباً عليّ ،فقلتُ لها ما هي أخبارك ؟ فقالت لي : بعد زواجي بشهر توفي زوجي عِصام ، ولم أتزوج بعد ذلك على أمل أن ترجعي عليّ ، ثمّ سألتني ، وأنت ما هي أخبارك يا عبدالله ؟ فأخبرتها بما حصل لي وأننا لم أتزوج حتى الآن ، فقالت لي: هل لك رغبة في الزواج بي يا عبدالله ؟ فقلت لها: بالتأكيد ، وبعد ذلك ودعتها على أن أقوم بترتيب أمور الزواج ، وبعد ذلك قمتُ بالذهاب إلى منزل أخيها الأكبر وليها الشرعي بعد وفاة أبيها وخطبتها منه وعقد لي قراني قبل عدة ساعات من الآن وحددنا موعداً للزواج .
تأثر الرجلُ من قصة الشيخ الكبير ، واستعبر وبكى معه ، لكنّه تمالك نفسه وقال للشيخ: إنّ ما مر بك موقفٌ عصيبٌ ولكنْ ينبغي لك أن تستعين بالله ، وأن تعيش ما بقي لك من حياتك عابداً لله ، وسيعوضك الله على صبرك واحتسابك خيراً .
حقاً إنّها آمالٌ تجددتْ بعد أربعين سنة .
وقفة :
أُعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ِ